فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أطفالًا.
وقد تقدّم هذا.
{ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} وهي حالة اجتماع القوّة وتمام العقل.
وقد مضى في الأنعام بيانه.
{ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا} بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل؛ لأنه جمع فَعْل، نحو: قَلْب وقُلُوب ورأس ورءوس.
وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ؛ مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة.
وقرئ {شَيْخًا} على التوحيد؛ كقوله: {طِفْلًا} والمعنى كل واحد منكم؛ واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس.
وفي الصحاح: جمع الشّيخ شُيوخ وأشياخ وشِيخة وشِيخان ومَشْيخة ومَشَايخ ومَشْيوخاء، والمرأة شَيخة.
قال عبيد:
كأنَّها شَيْخَةٌ رَقُوبُ

وقد شاخ الرجلُ يَشِيخ شَيخَا بالتحريك على أصله وشَيْخوخة، وأصل الياء متحركة فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعْلول، وشَيَّخ تَشْيِيخًا أي شاخ، وَشَيَّخته دعوته شيخًا للتبجيل.
وتصغير الشيخ شُيَيخ وشِيَيخ أيضًا بكسر الشين ولا تقل شُوَيخ.
النحاس: وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين؛ لأنها مؤنثة.
والشيخ من جاوز أربعين سنة.
{وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخًا، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سِقطًا.
{ولتبلغوا أَجَلًا مُّسَمًّى} قال مجاهد: الموت للكل.
واللام لام العاقبة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ذلك فتعلموا أن لا إله غيره.
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة.
{فَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أراد فعله قال: {لَهُ كُن فيَكُونُ}.
ونصب {فيكون} ابن عامر على جواب الأمر.
وقد مضى في البقرة القول فيه. اهـ.

.قال الألوسي:

{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثم خلقكم خلقًا تفصيليًا من نطفة أي من منى {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} قطعة دم جامد {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أي أطفالًا وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير.
وفي المصباح، قال ابن الأنباري: يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضًا؛ وقيل: إنه أفرد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يخرج كل فرد منه طفلًا {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} لللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على {يُخْرِجُكُمْ} وجوز أن يكون {لِتَبْلُغُواْ} عطفًا على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل: ثم يخرجكم لتكبروا شيئًا فشيئًا ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل، وكذا الكلام في قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا} ويجوز عطفه على {لِتَبْلُغُواْ}.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي {شُيُوخًا} بكسر الشين.
وقرئ {شَيْخًا} كقوله تعالى: {طِفْلًا} {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضًا {وَلِتَبْلُغُواْ} متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا {أَجَلًا مُّسَمًّى} هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار، وهو عطف على {خَلَقَكُمْ} والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء، وتفسير الأجل المسمى بذلك مروى عن الحسن، وقال بعض: هو يوم الموت.
وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم، وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في الكشف {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم.
{هُوَ الذي يحيى} الأموات {وَيُمِيتُ} الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة {فَإِذَا قضى أَمْرًا} أراد بروز أمر من الأمور إلى الوجود الخارجي {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} من غير توقف على شيء من الأشياء أصلًا.
وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد، وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضًا فتدبر. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{هُوَ الذي خَلَقَكُم} يا بني آدم.
{مِّن تُرَابٍ} أي: من ضمن خلق أبيكم آدم.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي: ثم خلقكم خلقًا تفصيليًا من مني.
قال الراغب: النطفة الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل؛ أي: ماء الصلب يوضع في الرحم كما قال ابن سينا:
لا تكثرن من الجماع فإنه ** ماء الحياة يصب في الأرحام

والمعنى: خلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلقكم من نطفة نسلًا بعد نسل، أو خلق كل واحد منكم من التراب، بمعنى أن كل إنسان مخلوق من المني، وهو من الدم، وهو من الأغذية الحيوانية والنباتية والحيوانية لابد أن تنتهي إلى النباتية، وإلا لزم أن يتسلسل الحيوانات إلى غير النهاية، والنبات إنما يتولد من الماء والتراب، أو خلق قالبكم في بدء أمركم من الذرة الترابية التي استخرجها من صلب آدم، ثم أودعها في قطرة نطفة بنيه.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهي الدم الجامد؛ لأن المني يصير على هذا الشكل بعد أربعين يومًا في بطن الأم.
{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} الطفل الولد ما دام ناعمًا كما في المفردات والصغير من كل شيء أو المولود ما في القاموس: وحد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام كما في تفسير الفاتحة للفناري، والطفل مفرد لا جمع، كما وهم.
وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} الآية محمول على الجنس، وكذا هو في هذا المقام جنس وضع موضع الجمع؛ أي: الأطفال، أو المعنى، ثم يخرج كل واحد منكم من رحم الأم حال كونه طفلًا لتكبروا شيئًا فشيئًا.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} كمالكم في القوة والعقل.
وبالفارسية: بغايت قوت خود كه منتهاى شبابست.
قال في القاموس: الأشد واحد جاء على بناء الجمع، بمعنى القوة، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين.
وفي كشف الأسرار: يقال: إذا بلغ الإنسان إحدى وعشرين سنة دخل في الأشد، وذلك حين اشتد عظامه وقويت أعضاؤه.
{ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أي: تصيروا إلى حالة الشيخوخة، والشيح يقال لمن طعن في السن واستبانت فيه، أو من خمسين، أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، وإلى ثمانين، كما في القاموس.
قال في كشف الأسرار: يقال: إذا ظهر البياض الإنسان فقد شاب، وإذا دخل في الهرم، فقد شاخ.
قال الشاعر:
فمن عاش شب ومن شب شاب ** ومن شاب شاخ ومن شاخ مات

روي: أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، قد شبت فقال: «شيبتني هود وأخواتها»، يعني: سورة هود، وكان الشيب برسول الله صلى الله عليه وسلّم قليلًا، يقال: كان شاب منه إحدى وعشرون شعرة بيضاء، ويقال: سبع عشرة شعرة.
وقال أنس رضي الله عنه: لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وقال بعض الصحابة: ما شاب رسول الله وسئل آخر منهم فأشار إلى عنفقته يعني كان مكان البياض في عنفقته؛ أي: في شعيرات بين الشفة السفلى والذقن، وإنما اختلفوا لقلتها.
يقال: كان إذا ادهن خفي شيبه.
{وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} يقبض روحه ويموت.
{مِن قَبْلُ} أي: من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد، أو قبله أيضًا.
{وَلِتَبْلُغُوا} متعلق بفعل مقدر بعده؛ أي: ولتبلغوا.
{أَجَلا مُّسَمًّى} وقتًا محدودًا معينًا لا تتجاوزونه هو وقت الموت، أو يوم القيامة يفعل ذلك؛ أي: ما ذكر من خلقكم من تراب، وما بعده من الأطوار المختلفة، ولكون المعنى على هذا لم يعطف على ما قبله من لتبلغوا ولتكونوا، وإنما قلنا، أو يوم القيامة؛ لأن الآية تحتوي على جميع مراتب الإنسان من مبدأ فطرته إلى منتهى أمره فجاز أن يراد أيضًا: يوم الجزاء؛ لأنه المقصد الأقصى، وإليه كمية الأحوال.
{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلوا ما في ذلك الانتقال من طور إلى طور من فنون الحكم والعبر وتستدلوا به على وجود خالق القوى والقدر.
{هُوَ الذي يُحْىِ} الأموات كما في الأرحام وعند البعث.
{وَيُمِيتُ} الأحياء كما عند انقضاء الأجل.
وفي القبر بعد السؤال، وأيضًا: يحيي القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه، ويميت القلوب بنار قهره، فإذا حيي القلب مات النفس، وإذا مات القلب حيي النفس.
قال الحسين النوري قدس سره: هو الذي أحيا العالم بنظره، فمن لم يكن به وبنظره حيًا، فهو ميت، وإن نطق تحرك ع: خوشادلى كه زنور خدابود روشن.
{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} القضاء بمعنى التقدير عبر به عن لازمه الذي هو إرادة التكوين؛ كأنه قيل: إذا قدر شيئًا من الأشياء، وأراد كونه.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} من غير توقف على شيء من الأشياء أصلًا: يعني:
وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك أمر أو مأمور حقيقة.
وذهب بعضهم: إلى أنه حقيقة، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة، فيقول بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو المركب من الأصوات والحروف كن؛ أي: احدث فيكون؛ أي: فيحدث، ولما لم يتعلق خطاب التكوين بالفهم، واشتمل على أعظم الفوائد، وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم.
وفي كشف الأسرار: فيكون مرة واحدة لا يثنى قوله.
وفي التكملة قوله: كن لا يخلو إما أن يكون قبل وجود المأمور، أو بعد وجوده، فإن قيل: قبل وجوده أدى ذلك إلى مخاطبة المعدوم، ولا يصح في العقل، وإن قيل: بعد وجوده أدى ذلك إلى إبطال معنى: كن؛ لأن المأمور إذا كان موجودًا قبل الأمر، فلا معنى للأمر بالكون.
والجواب: أن الأمر مقارن للمأمور لا يتقدم ولا يتأخر عنه، فمع قوله: كن، يوجد المأمور، وهذه كمسألة الحركة والسكون في الجوهر، فإنه إذا قدرنا جوهرًا ساكنًا بمحل، ثم انتقل إلى محل آخر، فإنما انتقل بحركة، فلا تخلو الحركة من أن تطرأ عليه في المحل الأول، أو في الثاني، فإن قيل في الأول، فقد اجتمعت مع السكون، وإن قيل في الثاني، فقد انتقل بغير حركة، وإن قيل: لم تطرأ في هذا، ولا في هذا فقد طرأت عليه في غير محل، وكل هذا محال.
والجواب: أن الحركة هي معنى خصصه بالمحل الثاني، فنفس إخلائه للمحل الأول، هي نفس شغله للمحل الثاني.
واعلم أن الله تعالى أنزل الحروف الثمانية والعشرين، وجعل حقائقها الثمانية والعشرين منزلًا لا على ما فصل عند قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وجعل مفاصل اليدين أيضًا ثمانية وعشرين.
أربعة عشر في يد واحدة وأخرى في أخرى على أن يكون لكل أصبع ثلاثة مفاصل إلا الإبهام وجعل كل أصبع مظهر الأصل من الأصول الخمسة، فالإبهام مظهر القدرة والمسبحة مظهر الحياة والوسطى مظهر العلم، والبنصر مظهر الإرادة، والخنصر مظهر القول، ولما كان العلم أعم حيطة جعل متوسطًا بين الأصلين اللذين في يمينه، وهي الحياة والقدرة، وبين الأصلين اللذين في يساره، وهي الإرادة والقول، وإنما سقط عن أصل القدرة المفصل الثالث؛ لأن كل واحد من الأربعة عام التعلق بخلاف القدرة؛ فإنها محجورة الحكم غير مطلقة؛ لأنه لا يتعلق حكمها إلا بالممكن، فلم يعم نفوذه، ولعدم عموم حكم القدرة جعل مظهرها الذي هو الإبهام ذا مفصلين، ولكون أمر القدرة مبهمًا وكيفية تعلقها بالمقدور شيئًا غامضًا سمي المظهر بالإبهام، فلا يجوز البحث عن كيفية تعلق القدرة بالمقدور، كما لا يجوز البحث عن كيفية وجود الباري، وعن كيفية العذاب بعد الموت، ونحو ذلك، مما هو من الغوامض.
وحقيقة الإحياء والإماتة ترجع إلى الإيجاد، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة سمي فعله إحياء، وإذا كان هو الموت سمي فعله إماتة، ولا خالق للموت والحياة إلا الله، ولا مميت ولا محيي إلا الله تعالى، فهو خالق الحياة ومعطيها لكل من شاء حياته على وجه يريده ومديمها، لمن أراد دوامها له كما شاء بسبب، وبلا سبب، وكذا خالق الموت ومسلطة على من شاء من الأحياء متى شاء، وكيف شاء بسبب، وبلا سبب، ومن عرف أنه المحيي المميت لم يهتم بحياة، ولا موت، بل يكون مفوضًا مستسلمًا في جميع أحواله لمن بيده الحياة والموت، كما قال إبراهيم عليه السلام: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء: 78) الآية.
وخاصية المحيي وجود الألفة، فمن خاف الفراق، أو الحبس، فليقرأه على جسده عدده.
وخاصية الاسم المميت أن يكثر منه المسرف الذي لم تطاوعه نفسه على الطاعة، فإنها تفعلها عن أوصافها المانعة عن القيام بأمر الله تعالى، ثم إن الماء مظهر الاسم المحيي، والتراب مظهر الاسم المميت، وهكذا الموجودات مع أسماء الله تعالى. اهـ.